الوهابية ودورها في تاسيس حكم آل سعود
يمنات
حسن الدولة
لن نذيع سرا جديدا إذا ذكرنا بذينك الاتفاق الذي عقد بين ابن عبدالوهاب محمد بن سعود بن محمد بن مقرن اول امير على الدرعية ابتداء من عام 1744م والتي استمرت 74 سنة اي حتى عام 1818م عندما قضى عليها العثمانيون بقيادة ابراهيم باشا ؛ بعد ان عاثت جماعة ابن عبدالوهاب بقيادة امير الدرعية والتي عرفت ب (اخوان نجد) الفساد وشنت الحروب باسم الدعوة للاسلام وتصحيح مفاهيم اسلامية نالت استحسان بعض علماء صنعاء ومنهم ابن الامير الذي ارسل قصيدته التي مدح فيها الدعوة التجديدية وبخاصة هدم قباب واضرحة الأئمة والأولياء وتقديس الأحجار والأشجار قال في مطلعها:
سلام على نجد ومن حل في نجدي
وان كان تسليمي على البعد لا يجدي
الا انه بعد ان بلغه ما ترتكبه تلك الجماعة من منكرات وقتل النفس المحرمة فسرعان ما ارسل قصيدة تراجع فيها عن موقفه مطلعها :
رجعت عن النظم الذي قلت في النجدي
فقد صح لي عنه خلاف الذي عندي
ظننت به خيرا وقلت عسى عسى
نجد ناصحا يهدي الأنام ويستهدي
فقد خاب فيه الظن لا خاب نصحنا
وما كل ظن للحقائق لي مهدي
وقد جاءنا منه الشيخ مربد
فحقق من احواله كلما يزري
ومن جاءني من تاليفه برسائل
يكفر اهل الارض على عمد
ولفق في تكفيرهم كل حجة
تراها كبيت العنكبوت لذي النقد
وهي قصيدة تتكون من 99 بيتا تناول فيها مثالب وقبح تلك الدعوة التكفيرية وذلك قبل ان يعلم انها دعوة بدعم بريطاني ؛ ثم عاد الكرة حفيد بن محمد سعود وبدعم ومشاركة مستشارين بريطانيين وامريكيين واخطر اولئك هو مستر جون فلبي الذي اطلق عليه عبدالعزيز اسم اسلامي هو الحاج عبدالله فلبي وقد ام المصلين في مكة في صلاتي الظهر والعصر لانها صلاتان سرية ..وقد حاول الانجليز تشجيع حسن البناء ان يكرر تجربة اخوان نجد في اليمن بتنسيق بينه وبين عبدالله بن علي الوزير الذي ذكر في رسالته للشيخ عبدالله الحكيمي ان عمه عبدالله بن احمد الوزير دعم الشيخ البناء بمبلغ 200 الف جنيه مصري. وهو رقم كبير وقد طلب الاخير من البناء الوصول الى اليمن لولا ان حكومة مصر رفضت خروج البناء ..وفيما يلي بحث طويل يشرح علاقة أسرة آل سعود مع اخوان نجد وان الاتفاق بينهم على تقسيم السلطة بين الاسرة والاخوان ممثلة بأبناء الشيخ ابن عبدالوهاب بحيث يحتكر الاخيرون السلطة الدينية مقبل احتكار السلطة السياسية بيد آل سعود..
——————————–
(اعتاد التلفاز السعودي بث أنباء الاجتماع المهم ثلاثاء كل أسبوع بلا انقطاع، نمط أسبوعي يجتمع فيه الملك نفسه مع هيئة كبار رجال الدين من فقهاء الوهابية ورجال الدين، بينما تُظهر النشرة التلفازية الشيخ الضرير “عبد العزيز بن باز” رافعا رأسه للسماء، ومتخذا موقعه على منصة الشرف بجوار الملك.
في بداية الأمر، لم يحب العلماء الظهور أمام شاشات التلفاز، ذلك الجهاز المريب الذي حرّموه في بادئ الأمر، ولكنهم اقتنعوا في نهاية المطاف أن ظهورهم عليه أفضل كثيرا من ترك الفضاء مفتوحا لـ “ترهات”، كما أسموها، يرونه يبثها ليل نهار.
في ذلك اليوم، وبينما كان العلماء يمرون كعادتهم فوق السجاد المخملي في قصر “المعذر”، علم الجميع خصوصية هذه المرة وأنهم يواجهون وضعا غير مسبوق، ولم يتوقع أي من الأمراء أو العلماء الحاضرين في أسوأ كوابيسهم أن يجتمعوا يوما والمسجد الحرام مختطف تحت قبضة مجموعة من المسلحين.
كان الملك “خالد بن عبد العزيز” يحتاج بشدة إلى مشورة رجال دين الهيئة، فلم يكن استخدام العنف وإراقة الدماء في بيت الله الحرام أمرا هينا يمكن أن تقطع فيه العائلة المالكة بمفردها، بينما لم يشعر العلماء من جانبهم قبلا بارتباك كارتباكهم اليوم، موقنين أن تأخرهم في إدانة أفعال “جهيمان” وصَحبِه السابقة ربما تسببت في بلوغ الأمور هذا الحد.
فلو كان المعتدون من “الكافرين الأجانب”، كما يحب علماء الدين السعوديون تسميتهم، لكان الأمر أهون مما حدث، لكن الطعنة أتت من الداخل هذه المرة، وعرف الجميع يومها أن الخاطفين تلامذة سابقون ونتاج نجيب للمدرسة الدينية السعودية وأكابر رؤوسها.
*بعد قرون من الركود، بدأت الأمور في جزيرة العرب الهادئة في الانقلاب رأسا على عقب (*)، وبدا أن النفط لم يجلب للمملكة أموال هؤلاء “الأجانب” فقط وإنما جلب أفكارهم وقيمهم أيضا.*
وبدأت النساء في الظهور على شاشات التلفاز،
وأصبحت اللغة الإنجليزية أهم من العربية،
وتدفقت الأموال إلى حسابات الجميع بمن فيهم علماء الحظوة الدينية أنفسهم.
وفي تلك الأجواء بدا “جهيمان العتيبي”، بشعره المجعد وثوبه القصير ومسكنه البدائي مسيرة نصف ساعة عن مسجد النبي محمد في المدينة المنورة، كما لو أنه خرج من قرون سابقة ليبدأ هذه “الكارثة”.
لم يرض “جهيمان” وأمثاله من الشباب “المتدينين الثائرين” عن نهج حكومتهم بسماحها بخروج النساء إلى الشوارع وإقامة المباريات الرياضية ذات السراويل القصيرة وإدخال التلفاز إلى المنازل، ورأوا أن تدفق الأموال أفسد الجميع بمن في ذلك العلماء، ولم يفلح رجال الدين في استيعاب حماسة تلامذتهم السابقين، رُغم توسطهم في أكثر من مناسبة لمنع النظام السعودي من البطش بهم، ثم تطورت الأمور سريعا حتى خرجت عن السيطرة ووصلت إلى تكوّن حركة “مهدوية” تطلب البيعة لنفسها تحت تهديد السلاح في المسجد الحرام.
استغرق العلماء ثلاثة أيام كاملة قبل أن يصدروا فتواهم مجيزين للعائلة المالكة القتال داخل البيت الحرام، ولكنهم أصروا على منح الحكومة الخاطفين خيار الاستسلام وإلقاء السلاح أولا، وكان ذلك حينها كل ما احتاجه آل سعود للانطلاق، لتكون المحصلة النهائية(1) مقتل 117 شخصا من الخاطفين، إضافة إلى 127 من قوات الأمن السعودية، وبضعة عشرات من المصلين الموجودين في المسجد صبيحة الاقتحام.
كانت تلك لحظة حاسمة لآل سعود اقتنعوا خلالها بـ “مخاطر” تحالفهم مع رجال الدين،
وفي حين أن وزير الداخلية الأمير “نايف بن عبد العزيز” كان متلهفا لتبرئة ساحته عبر التصريح بأن “عددا كبيرا من مثيري الشغب، بمن في ذلك مهديهم المزعوم، كانوا قيد الاعتقال قبل أن يتم إطلاق سراحهم بطلب من “ابن باز” نفسه”، كانت تلك أعلى درجة يمكن لآل سعود أن ينتقدوا بها رجال الدين حول مسؤوليتهم عما حدث في المسجد الحرام.
وكانت العائلة المالكة السعودية عملية على كل حال، موقنين عدم استطاعتهم الالتفاف على رجال الدين بالكلية، ممتلكين اعتقادا راسخا بأنه لو جرت انتخابات في البلاد (**) فإن بمقدور “ابن باز” ربحها دون حتى أن يغادر بيته، وتحديدا في رأي “فهد”، الملك الجديد وقتها للمملكة.
*سيد الحداثة*
كان “فهد” نموذجا مثاليا جسّد التناقضات الكامنة في قلب تحالف ديني سياسي قامت عليه السعودية كاملة.
*فلُقّب “ولي العهد”، قبيل المُلك، في الأوساط السعودية بـ “سيد الحداثة” كونه من أنصار الانفتاح الشديد على الغرب، كما ذكر روبرت ليسي في كتابه المهم “المملكة من الداخل”،* وملأت أنباء عطلاته الغربية الآفاق، لكنه تعلم من والده أسلوبه الحذر في معاملة الشبكة الدينية السعودية، وسرعان ما أدرك حتمية وقوفه في الجانب الرابح من الرقعة، وأن الحل لأزمة الرؤية الدينية بالأساس هو مزيد من الاتجاه نحو نفس الصورة من الدين كما رأى.
*وفي ذلك الوقت، اعتقد العديد من السعوديين أن مجزرة المسجد الحرام كانت “عقابا من الله بسبب نشر صور النساء في الصحف وقتها”، وكان اعتقادا بديهيا في بيئة اجتماعية كبيئة المملكة، لكن المثير للاهتمام هو إيمان الملك “فهد” بشكل ما بذلك أيضا.*
وبدلا من أن يفعّل الهياكل الدستورية التي وعد بها أسلافه مثل مجلس الشورى، فإن الملك الجديد هجر حياته الغربية المعتادة واحتضن شبكة الدين المحلية بشكل غير مسبوق.
بدأت مطابع الملك فهد بطباعة القرآن الكريم في المدينة المنورة بتكلفة تجاوزت 130 مليون دولار في عام 1984، ومنذ ذاك العام بدأت المملكة في إهداء نسخة من المصحف المطبوع لأكثر من مليوني حاج سنويا، كما فتحت أكثر من 70 سفارة سعودية حول العالم أقساما ثقافية وتربوية، وعيّنت مُلحَقِين دينيين للإشراف على بناء مساجد تروج للفكر “السعودي-الوهابي” تحالفا في تلك الدول، وخصص “فهد” أكثر من 27 مليار دولار لهذه الجهود، في وقت أولى فيه اهتماما خاصا لتحسين وتوسعة الحرمين على نفقته الخاصة، قبل أن يختم توجهه المختلف بإضافة لقب جديد إلى ألقابه، لا يزال مفضلا لجميع الملوك السعوديين من بعده، وهو “خادم الحرمين الشريفين”.
كان “فهد” نموذجا تقليديا لطريقة حفاظ الملوك السعوديين على بقائهم واستمرارهم في أوقات الأزمات عبر الاستثمار في تعزيز صِلاتهم مع مراكز القوى والنفوذ الداخلية،
وفي مقدمتها تحالفهم التاريخي مع الشبكة الدينية، شبكة احتفظت عبر تاريخها ورجالها بما يشبه(2) الفيتو ضد النظام الملكي تحت ستار أحكام الشريعة.
ورغم أن الملوك السعوديين حرصوا دوما على تكريس سلطاتهم على شبكة رجال الدين، كما بدا في واقعة الملك المؤسس “عبد العزيز آل سعود” الشهيرة حين أنزل الشيخ “ابن نمر” من على منبره بعد انتقاده سماح الملك للأجانب بالتنقيب عن النفط في أراضي المملكة، *رغم ذلك ظل رجال الدين متمتعين بقدر كبير من الاستقلالية والحصانة،*
حتى إن “ابن سعود” نفسه لم يكن بمقدوره المساس بالقاضي الشاب الغاضب -آنذاك- “ابن باز” حين اعترض علنا على نشاطات المهندسين الأميركيين في مدينة “الخرج”، معتبرا إياها حد تعبيره “تسليما لأرض مسلمة للكفار ما يتناقض مع واجبات الحاكم الإسلامي”.
لم تكن البداية مع فهد على كل حال، فلطالما عرف الجميع السعودية على أنها دولة بدوية قامت على تحالف غير نمطي بين محاربي الجزيرة الأشداء ورجال الدين، وقت أن وقع ذلك اللقاء التاريخي بين “محمد بن سعود” حاكم الدرعية الطموح، و”محمد بن عبد الوهاب” رجل الدين الأصولي، حيث عقد الرجلان اتفاقا يقدم بموجبه “ابن سعود” الحماية لدعوة “ابن عبد الوهاب”، مقابل أن يقدم “ابن عبد الوهاب” الدعم له كحاكم.
وسرعان ما أعلن الأخير الجهاد في شبه الجزيرة العربية حتى نجحت قوات الأول في السيطرة على مكة.
لعب “ابن عبد الوهاب”، القائد الديني، دور ولي الأمر في الدولة الناشئة لا “ابن سعود”، القائد الدنيوي، كما يؤكد المؤرخ النجدي “ابن بشر”.
ورغم أن دولة “ابن سعود” الأولى لم تصمد طويلا تحت وطأة تدخل آلة المصريين والأتراك العسكرية خلف راية الخليفة العثماني، حيث تم دك أسوار “الدرعية” وتحويلها إلى ركام، فإن التحالف التاريخي المؤسس لها أثبت قدرته على التجدد بعد عقود طويلة، حين قام “عبد العزيز بن سعود”، أول ملوك الدولة السعودية الحديثة “الثالثة”، بإنشاء سلطته على ذات الصفقة التاريخية، يتولى بموجبها “آل سعود” الحُكم والسلطة، على أن يستمدوا شرعيتهم من مظلة التزامهم بأحكام الشريعة كما يقررها رجال الدين.
خلقت تلك الصفقة نظاما سياسيا جديدا من نوعه في المملكة، *كان(3) أكثر انفتاحا من أن يصنّف كديكتاتورية استبدادية عسكرية قائمة على القمع، وأكثر شبها بـ “استبدادية تعاقدية” إن جاز القول، تقوم على احتكارٍ مَرْضيّ عنه لسلطة يتم اقتسامها بين الأمراء ورجال الدين، مع نطاقات نفوذ متباينة ومساحات محدودة للتداخل والصراع.*
وحرص الطرفان في معظم الأوقات على احترام مناطق نفوذ كل منهما حتى فيما يتعلق بأبسط الأشياء كالألقاب والملبس، فلم يلقب “آل سعود” أنفسهم بالشيوخ، رغم أن العديد من الأسر الحاكمة في الجزيرة لا تزال تفعل ذلك إلى اليوم، وميز الشيوخ أنفسهم في الملبس ممتنعين عن ارتداء العقال (***)، وفي هذا النظام كان رجال الدين نوابا بشكل ما عن المجتمع السعودي “المحافظ” في رقابتهم على التزام الأمراء ورجال الدولة بأحكام الشريعة.
*ظلت هذه الصفقة قائمة ومهيمنة على تنظيم دوائر الحكم السعودية قرابة سبعة عقود كاملة، رغم بعض المحاولات الحيية بين الحين والآخر للتدافع داخلها، قبل أن يشهد الحال تغييرات متسارعة في الأعوام الثلاثة الأخيرة وضعت السعوديين ومتابعيهم في حيرة من أمرهم.*
فبعد أكثر من ثلاثة عقود على بداية حكم “فهد”، تواجه بلاده من جديد ظروفا عصيبة تهدد سيطرة النظام الحاكم، مع انهيار الإيرادات النفطية وتقلص الوُفور، وموجات تغيير كبرى لا تزال تتمخض في بادية العرب، غير أن “محمد بن سلمان”، الملك المنتظر، قرر أن يسلك طريقا مختلفا عن طريق عمه، وبدلا من العودة للتشبث بتحالف الحاكم التقليدي مع رجال الدين، لا يرى ولي العهد اليوم على ما يبدو أنه بحاجة إلى مواصلة طريق أعمامه ووالده في التقرب للشيوخ، بينما يرسم طريقه الخاص للسلطة بادئا إياه بانقلاب ناعم على عقود وأعراف تاريخية حُكمت بموجبها المملكة لعقود طويلة، ومغيرا السعودية رأسا على عقب.
*المملكة العربية “السلمانية”*
لم يكن “ابن سلمان” أول ملك أو ولي عهد سعودي، باعتبار من في المنصبين حاكمي البلاد الفعليين، يأتي بأجندة تتصادم بشكل افتراضي مع توجهات رجال الدين، ولكن الأمر تكرر مع معظم الحكام السعوديين قبله، وغالبا ما انتهت الأمور في كل مرة بصفقة تفاوضية، يتم خلالها تمرير قرارات الملك بعد إخضاعها لبعض الرتوش “الشرعية” من المشايخ.
فعلى سبيل المثال، عندما حاول(4) الملك فيصل وزوجته “عفت الثنيان” إدخال تعليم الإناث إلى المجتمع السعودي للمرة الأولى واجها معارضة كبيرة من قِبل رجال الدين وزعماء القبائل، ولكن القرار مُرّر في نهاية المطاف بعد أن أمّن رجال الدين بعض الشروط المتعلقة بمناهج التعليم وبيئته، ونصبوا أنفسهم كمشرفين على مدارس الفتيات الجديدة.
تكرر الأمر ذاته مع الملك “عبد الله”، عندما قام على مدار أعوام بتطبيق جملة سياسات هدفت في جوهرها إلى تقليص سلطة الشيوخ بالمملكة، مستفيدا من مناخ عام مغاير صنعته أحداث 11 (سبتمبر/أيلول)، فقام بتعيين “نورا الفايز” كنائبة لوزير التربية لشؤون الإناث في سابقة كأول امرأة سعودية في منصب وزاري، كما أصدر قانونا عام 2006، بعد عام واحد من توليه العرش رسميا، يسمح للنساء بالعمل في منافذ بيع الملابس ومستحضرات التجميل، رغم اضطراره لإرجاء تنفيذه إلى ستة أعوام كاملة بسبب ضغوط الشيوخ، وقام أيضا بإقالة رئيس “هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر”، بيد أن خطوته غير المسبوقة الأكبر كانت بإقدامه على إعادة هيكلة هيئة كبار العلماء بشكل “ثوري”، لتضم لأول مرة في تاريخ المملكة ممثلين عن المذاهب الإسلامية الأربعة، في محاولة ذكية لتغيير ميزان القوى الدينية في البلاد.
*إن كان لنا أن ندعي وجود مَثَل أعلى يحتذيه “ابن سلمان” اليوم فإن هذا المَثَل سيكون بالتأكيد هو عمه “عبد الله”، رغم أن صعود “ابن سلمان” هرم السلطة بدا في ظاهره انقلابا على التقاليد الملكية، وحتى السياسات، التي أرساها عمه الراحل.*
فمنذ صعود والده إلى العرش مطلع عام 2015، وضع “ابن سلمان” نصب عينيه مهمة تقويض سلطة شبكة رجال الدين في البلاد كمفتاح لإعادة تشكيل النظام السياسي.
ورغم أن السلطة الدينية كانت بالفعل تخسر مساحات سيطرتها بسرعة كبيرة منذ عهد “عبد الله”، فإنها لم تتعرض لهذا القدر من الإذلال الذي عانته، إن جاز القول، حين وجدت نفسها بين عشية وضحاها، ودون أي مقدمات، مضطرة للالتفاف على أطنان من إرثها التاريخي، من “فتاوى شرعية” تجرّم قيادة المرأة للسيارة، بعد قرار (سبتمبر/أيلول) الماضي لعامنا الحالي بالسماح للنساء بالقيادة لأول مرة.
ولم يقتصر الضرر على المكانة الرمزية للشيوخ فحسب، ولكنه أضر بمكانتهم السياسية أيضا، حيث كان حظر قيادة المرأة للسيارة أشبه بفيتو ديني(5) يمارسه رجال الدين على السلطة الحاكمة، وبدا أن رفع هذا الحظر هو مسمار أخير دقه “ابن سلمان” في نعش التحالف الديني السياسي المكون للمملكة.
كانت خطوات “ابن سلمان” متتابعة وسريعة. وعلى طريقة عمه “عبد الله”، اختار الأمير الشاب الإجهاز على السلطة الدينية مفتتحا معركته بأقل حلقاتها شعبية: “هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر”، المعروفة شعبيا باسم “المطاوعة”.
تأسست الهيئة في عام 1940، في وقت مبكر من عمر الدولة السعودية، تعبيرا عن هويتها الدينية بهدف ضمان التزام المجتمع السعودي بـ “نهج إسلامي محدد” للدولة، وتولت الهيئة مهمة رقابة التزام السعوديين بالأحكام الشرعية المطبقة بالمملكة، بدءا من ملابس النساء وصولا إلى إغلاق منافذ البيع أوقات الصلوات.
وسرعان ما توسعت الهيئة وانتشرت فروعها في كل المدن والمناطق وحتى الأحياء، وتوسعت صلاحياتها في توقيف المخالفين وتفتيشهم بشكل “مهين” ومصادرة حاجاتهم الشخصية مثل الهواتف النقالة.
غير أن الأعوام الأخيرة شهدت تسليطا واسعا للأضواء على انتهاكات “المطاوعة”، منذ واقعة(6) حريق مجمع البنات المتوسطة رقم 31 في مكة المكرمة عام 2002، حريق اتهمت على إثره المطاوعة بالتسبب في مقتل 15 فتاة، بعد قيامهم بإغلاق الأبواب على البنات ومنع فرق الإنقاذ من نجدتهن نظرا لعدم ارتدائهن الحجاب، وصولا إلى واقعة مطاردة الأخوين “ناصر” و”سعد القوس” مسفرة عن مصرعهما في حادث مروري، لتتسبب تلك الانتهاكات المتتالية الموثقة وغيرها للهيئة، مع التداول المكثف لها على وسائل التواصل الاجتماعي، في تناقص ملحوظ لشعبيتها. وفي ظل هذه الأجواء، صدر قرار(7) في (أبريل/نيسان) العام الماضي 2016 لينص على الحد من صلاحيات المطاوعة في إيقاف الأشخاص أو الحصول على هوياتهم أو وثائقهم، وتم تقليص ساعات عملهم إلى ساعات العمل الرسمية، وهو قرار قوبل برضا نسبي داخل المملكة وترحيب كبير خارجها.
كان تحجيم “الشرطة الدينية” أول انتصارات “ابن سلمان” المباشرة في معركته الخاصة ضد المؤسسة الدينية، لكن ولي ولي العهد آنذاك لم ينتظر طويلا قبل الإقدام على خطوته التالية.
وعلى طريقة عمه “عبد الله” أيضا، وقبل نهاية عام تقليم أظافر الهيئة نفسه، صدر مرسوم ملكي يقضي بإعادة تشكيل الكيان الأهم والأقوى “هيئة كبار العلماء” عبر تعيين أربعة أعضاء جدد فيها: “سليمان أبو الخيل” و”محمد العيسى” و”صالح العصيمي” و”جبريل البصلي”، في مقابل إعفاء ثلاثة أشخاص آخرين.
ورغم أن القرار حافظ على معظم أعضاء الهيئة، ومنهم من يشغل منصبه منذ قرابة نصف قرن حين تأسيسها عام 1971 في عهد الملك “فيصل”، فإن تعيين شخصيات مثل “العيسى”، وزير العدل الأسبق الذي سمح للمرأة أثناء وزارته بممارسة مهنة المحاماة، و”سليمان أبو الخيل” المعروف بمعاداته لتيار “الإسلام السياسي” وانخراط رجال الدين عامة في شؤون السياسة، كان مؤشرا واضحا على التوجهات المستقبلية للنظام السعودي الجديد.
تُعد هيئة كبار العلماء أكبر هيئة دينية رسمية في السعودية اليوم، وتأسست عام 1971 لتضم أبرز الفقهاء السعوديين، في إطار جهود السلطة لاحتواء التيار الديني عبر مأسسته.
ويجري اختيار أعضائها بموجب أمر ملكي لمدة أربع سنوات قابلة للتجديد، ويبلغ عدد أعضائها اليوم 21 عضوا، وهو الحد الأقصى لعدد الأعضاء، يرأسهم المفتي العام للبلاد “عبد العزيز آل شيخ”، *لذا كان قرار إعادة تشكيل الهيئة بمنزلة محاولة من السلطة لإعادة تشكيل الرأي الديني الرسمي عبر إبعاد بعض من أصحاب الرؤى “الأكثر محافظة”، وجاء متزامنا مع إطلاق ما صار يعرف باسم “رؤية 2030″،*
والهادفة إلى إحداث تحول اقتصادي في المملكة بعيدا عن الاعتماد المفرط على النفط، والحاملة في طياتها وعودا بتحولات اجتماعية موازية بالداخل السعودي تشمل منح المزيد من الحقوق الاجتماعية، بما في ذلك بعض الحقوق للنساء لتشجيع انخراطهن في سوق العمل، وتخفيف القيود المفروضة على “الترفيه”.
*ورغم أن “رؤية 2030” لم تحمل توجها واضحا بشأن مستقبل المؤسسة الدينية الرسمية فإن المضي قدما في هذه الخطط استلزم من اللحظة الأولى، وعلى ما يبدو، محاولات متدرجة لتحطيم “فيتو” الشيوخ من أجل فتح الطريق لتمرير حزمة من توجهات عُدّت لفترة طويلة من المحرمات بإطلاقها.*
بيد أن “ابن سلمان”، في طريقه الخاص إلى العرش، لا يكتفي بتقويض سلطة رجال الدين السعوديين فحسب، ولكنه يحطم(8) أيضا عقودا من تقاليد متوارثة، حكمت توزيع وتداول السلطة داخل العائلة المالكة، *من خلال حملة تقليم أظافر غير مسبوقة لمراكز قوى العائلة المالكة، وخطة استبعاد ممنهجة للأمراء النافذين تسببت في أكبر تركيز(9) للسلطة في يد سعودي واحد منذ عهد “فيصل”، لتقع في أيدي ابن سلمان على حساب عشرات الأمراء الأكبر سنا والأكثر خبرة، من أجل ضمان السيطرة بشكل منفرد على الحكم مع أقل قدر ممكن من الإزعاج والمنافسة.*
*الخُطــة*
تمتعت السعودية، على مدار تاريخها، بنظام فريد لترتيب الخلافة الملكية، تنتقل بموجبه السلطة من الأخ إلى أخيه مع احترام خاص لعوامل العُمر والخبرة،
ومراعاة توافق الآراء داخل العائلة المالكة حول شخصية الملك،
والتوزيع المتوازن(10) للسلطة بين مختلف الإخوة وأبنائهم.
*وعلى مدار سنوات طويلة، اقتسمت الأفرع المختلفة للعائلة المالكة السلطة، كما اقتسموا أيضا حصصا متقاربة من العائدات والمدفوعات المالية.*
ولكن مع تقدم أبناء الملك المؤسس “عبد العزيز بن سعود” في العمر ووفاة العديد منهم، وتصاعد المنافسة بين أمراء الجيل الثالث، حدثت اختلالات واضحة في موازين القوى داخل العائلة، وتركزت السلطة تدريجيا في أيدي عدد أقل من الأمراء، رغم اتساع نطاق العائلة المالكة التي صارت تضم المئات من أمراء الجيلين الثالث والرابع.
لفهم أكثر، وبعد وفاة ولي العهد الأسبق الأمير “سلطان بن عبد العزيز” وزير الدفاع، وصاحب النفوذ في السياسة الدفاعية للمملكة، والمسؤول عن سياستها تجاه اليمن، خسرت مثلا أسرة “سلطان” نفوذها تدريجيا بما يشمل نجله ذائع الصيت “بندر بن سلطان” لينزوي عن المشهد، وانتقلت سلطة الدفاع والاستخبارات إلى شقيقه “سلمان” وأبنائه.
وخسر جناح العائلة المالكة “الفيصلي” بدوره قدرا كبيرا من نفوذه أيضا بعد وفاة وزير الخارجية المخضرم “سعود الفيصل” منتصف عام 2015، ليحل محله “عادل الجبير”، وهو شخصية لا تنتمي إلى العائلة المالكة، ومع خفوت نجم رئيس الاستخبارات الأسبق “تركي الفيصل”، ما تسبب في تركز السلطة في فرعي أبناء “سلمان”، وزير الدفاع آنذاك، وأبناء ولي العهد الراحل “نايف بن عبد العزيز” وزير الداخلية، كما تم تحجيم نفوذ الحرس الوطني بقيادة الأمير “متعب”، بعد وفاة والده الملك “عبد الله”، مع وجود خطط(11) لدمجه قريبا داخل صفوف الجيش السعودي ما يعني التخلص منه نهائيا بشكل فعلي.
بعد صعود الملك سلمان إلى العرش، استخدم العاهل السعودي ابن أخيه الأمير “محمد بن نايف”، أبرز أمراء الجيل الثالث وأكثرهم نفوذا، كبوابة لتجاوز من تبقى من إخوته الهرمين، ولتمرير السلطة إلى جيل أحفاد الملك المؤسس، واضعا نجله الثلاثيني “محمد بن سلمان” خلف “ابن نايف” في منصب ولي ولي العهد الذي استحدثه الملك الراحل عبد الله.
وعلى مدار أول عامين من حكمه، عمد الملك ونجله إلى محاصرة فرع الأمير “نايف بن عبد العزيز” بشكل عام من ناحية، وتقليص سلطات الأمير “محمد بن نايف” على وجه الخصوص من ناحية أخرى.
على سبيل المثال، تم تعيين حفيد العاهل السعودي “أحمد بن فهد بن سلمان” في منصب نائب رئيس المنطقة الشرقية الغنية بالنفط، وهو المنصب الذي يشغله “سعود بن نايف” الأخ غير الشقيق لـ “محمد بن نايف”.
ورغم حرص الملك ونجله على استمرار وزارة الداخلية في يد أحد أبناء جناح “نايف”، في أعقاب الإطاحة بولي العهد “محمد بن نايف” من جميع مناصبه في (يونيو/حزيران) الماضي، فقد تم اختيار أحد أمراء الجيل الرابع “أبناء الأحفاد”، وهو “عبد العزيز بن سعود بن نايف” لتولي الوزارة، *بعد أن تم تجريدها تدريجيا من معظم صلاحيتها عبر سحب صلاحية الادعاء العام منها، ثم تشكيل مجلس للأمن القومي يتبع مباشرة سلطة الملك، قبل أن يتم تأسيس قطاع جديد مستقل داخل وزارة الداخلية تحت مسمى “رئاسة أمن الدولة” مع منحه صلاحيات موسعة، وتم وضع الجهاز تحت يد أحد المقربين من “محمد بن سلمان” وهو الجنرال “عبد العزيز الهويريني”، مع منحه رتبة وزير فضلا عن احتفاظه بإدارة جهاز المباحث العامة، ليصبح “الهويريني” بين عشية وضحاها الرجل الأقوى في وزارة الداخلية السعودية في ظل النظام الجديد.*
لا يُعد “الهويريني” شخصية مجهولة لدى السعوديين بحال، فقد قضى الجنرال المخضرم حياة مهنية حافلة في وزارة الداخلية تعرض خلالها لمحاولتي اغتيال على الأقل، وطالما ارتبط اسمه بوزير الداخلية وولي العهد السابق “محمد بن نايف” بوصفه أحد رجال الأخير المخلصين.
لذا لم يشعر الكثيرون بالدهشة تجاه ما نشرته(12) نيويورك تايمز حول وضع “الهويريني” تحت الإقامة الجبرية بعد الإطاحة بـ “ابن نايف”، مشيرة آنذاك إليه بصفته أحد أهم رجال وزارة الداخلية، ومتطرقة إلى دوره في العلاقات السعودية الأميركية، *وذاكرة أن الاستخبارات الأميركية أعربت للبيت الأبيض عن قلقها من الإطاحة بـ “ابن نايف” واستبعاد “الهويريني”، وأن ذلك الأمر بإمكانه إعاقة عملية تبادل المعلومات الاستخباراتية بين واشنطن والرياض.*
أثار تقرير الصحيفة الأميركية الكثير من اللغط، لكن الجميع كانوا على موعد مع مفاجأة غير متوقعة بعد ساعات من نشر التقرير، حين صدر أمر ملكي تم بموجبه تسمية “الهويريني” نفسه كرئيس لجهاز أمن الدولة الوليد في البلاد.
بدت الخطوة السعودية على أنها محاولة لتقويض مصداقية التقارير الصحافية الأميركية التي تصف ما تعرض له رجال “ابن نايف”، ولكنها أشارت من طرف خفي إلى تفاهمات يحتمل وقوعها بين “ابن سلمان” و”الهويريني” أتت نابعة من رغبة ولي العهد الجديد في تهدئة مخاوف الاستخبارات الأميركية، المنزعجة من فقدان حليفها الأهم “ابن نايف”.
باستثناء علاقته المزعومة مع “ابن نايف”، لا يوجد لدى “ابن سلمان” تحفظات خاصة تجاه “الهويريني”، الجنرال ذو الخبرة الأمنية الكبيرة والحاصل على ميدالية جورج تينيت، المقدمة من الاستخبارات الأميركية للقادة المتميزين في مجال “مكافحة الإرهاب”، بل إن الرجل يكاد يكون مطابقا تماما لمواصفات طبقة الحكم الجديدة التي يحيط ولي العهد نفسه بها، طبقة تشمل مزيجا خاصا من أفراد أسرته المقربين، وأمراء الجيل الرابع “أبناء الأحفاد”، المهمشين عن السلطة بحكم واقع الاتساع المطرد للعائلة المالكة وصعوبة توفير مناصب قيادية للجميع، والأهم طبقة التكنوقراط الموالين له من ذوي الطموح، الساعين لإثبات وجودهم داخل نظامه الناشئ، والذين تظل طموحاتهم مرتبطة برضا “ابن سلمان” ومسقوفة بما يقرره بحكم عدم انتمائهم إلى العائلة المالكة من الأساس.
*لم يكن مستغربا إذن أن يتحول “الهويريني” إلى أهم أعمدة نظام “ابن سلمان”، طالما أنه قبل ذلك، بل وأن يشارك(13) بنفسه في “تطهير” وزارة الداخلية من الموالين لرئيسه السابق، بل وأن تُسند له مهمة إدارة جميع شؤون الأمن الداخلي في المملكة العربية السعودية، بما في ذلك التحقيقات والقوات الخاصة ومراقبة الطيران و”مكافحة الإرهاب”، مع ميزانية هائلة تبلغ خمسة مليارات دولار، وهي تقريبا ضعف الميزانية المخصصة لجهاز الاستخبارات العامة السعودي.*
*التكنـوقـراط*
يفضل “ابن سلمان” التعامل مع التكنوقراط، فهي في أدنى الأحوال تكفيه مؤونة مراعاة توازنات تقليدية تؤخذ بالاعتبار في التعامل مع الأمراء، خاصة حين يكونون أكبر سنا. وتشكل هذه السياسة أحد أهم معالم حكم “ابن سلمان”، حكم تنتقل فيه العديد من مراكز السلطة بشكل تدريجي إلى التكنوقراط خارج العائلة المالكة، بحكم مخاوف ولي العهد من منافسات محتملة داخل العائلة من قِبل خصوم قد يرون أنفسهم أكثر جدارة.
*لا عجب إذن أن يُشغل أهم جناحين للنظام الجديد، النفط والشؤون الخارجية، بواسطة اثنين من التكنوقراط المقبولين من “ابن سلمان” وهما عادل الجبير وخالد الفالح على الترتيب،*
في وقت يُعتقد فيه أن “الفالح” تحديدا هو مهندس الاكتتاب العام لشركة أرامكو، أبرز مشروعات “رؤية 2030″، أو بالأحرى رؤية “ابن سلمان” الخاصة.
لا يقتصر الأمر على هذين الاسمين البارزين، بل يمكن القول، ولن يكون خطأ على الأرجح، إن ولي العهد السعودي نجح في نسج شبكة السلطة الخاصة به بطريقة فريدة، عبر إحاطة نفسه بشبكة من الموالين المختصين في جميع المجالات، بداية من الاقتصاد والشؤون المجتمعية، مرورا بالسياسة والإعلام، وانتهاء بالأهم “الأمن الداخلي” والشؤون الدفاعية.
ففي المجال الاقتصادي على سبيل المثال، صعد نجم شخصيات لم تكن معروفة من قبل، مثل خريج كلية هارفارد للأعمال “ياسر الرميان”، مستشار “ابن سلمان” والمشرف على صندوق الاستثمارات السعودي، الذراع المالي المفضل لولي العهد.
ويُعد “الرميان” رفيق “ابن سلمان” الأثير في معظم رحلاته الخارجية، بجانب “أحمد عقيل الخطيب”، وزير الصحة الأسبق ومستشار الديوان الملكي والمتولي حديثا مسؤولية الهيئة العامة للترفيه، هيئة أسسها ولي العهد ضمن إطار رؤية 2030، ويشغل “الخطيب” أيضا عضوية مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية.
*أما على الصعيدين الأمني والعسكري، عمد ولي العهد إلى تعزيز سيطرته على مختلف أجهزة الأمن والاستخبارات من أجل تفادي أي تمرد محتمل.*
فقام بتنصيب “أحمد عسيري”، مستشاره العسكري المقرب ومهندس العلاقات العامة لحملته العسكرية في اليمن، في منصب الرجل الثاني في جهاز الاستخبارات السعودية، بعد أن ضمن السيطرة على الجيش من خلال أحد الأمراء المقربين منه، وهو “فهد بن تركي” الذي عمل مع “ابن سلمان” كقائد للقوات الخاصة في حرب اليمن، قبل أن يُعين كرئيس لأركان القوات المسلحة السعودية.
كما قام “ابن سلمان” بوضع الاقتصادي السابق “محمد الغفيلي” على رأس مكتب الأمن القومي الجديد، أحد أبرز أجهزة الأمن الداخلي المستحدثة، من أجل تحجيم أكبر لسُلطات وزير الداخلية الجديد المحاصر قبلا من خلال كل من “الهويريني”، المشرف العام الفعلي على جميع المهام الحيوية بالوزارة، و”أحمد محمد السالم” المُعين كنائب لوزير الداخلية، مع منح كل منهما درجة وزير.
*في طريقه إلى العرش، لم يغفل ولي العهد أهمية التحكم في الرواية السائدة، عبر إعادة تشكيل المشهد الإعلامي في البلاد، من خلال المجموعة السعودية للأبحاث والتسويق،*
وهي مجموعة تدير عددا من وسائل الإعلام المرموقة في المملكة سواء بشكل مباشر أو غير مباشر.
*وفي هذا المضمار، يبقى “سعود القحطاني”، المستشار الإعلامي للديوان الملكي برتبة وزير منذ (ديسمبر/كانون الأول) عام 2015، رجل المشهد بلا منازع.*
عمل “القحطاني” صحافيا سابقا في صحيفتي إيلاف والرياض الحكومتين، وعُرف بهجومه الحاد على أي منتقد للسلطة والنظام السعودي، ومع صعود “ابن سلمان” بتولي والده الحكم، قام مباشرة بجلب “القحطاني” إلى البلاط الملكي.
*ويلعب(14) “سعود القحطاني” اليوم بشكل تنسيقي دور “غوبلز” النظام السعودي الجديد، حيث يدير فرقا إلكترونية مهمتها الترويج لسياسات النظام الجديد بالمملكة، واستهداف خصوم ذلك النظام الداخليين والخارجيين، ومراقبة توجهات الصحافيين والناشطين، وإطلاق الوسوم وتفعيل الشبكات الاجتماعية في اتجاه النظام وإعداد القوائم السوداء.*
وقد أثار “القحطاني” لغطا غير مسبوق بسبب أدائه الإعلامي في الحملة التي قادتها بلاده ضد قطر، وبسبب تكتيكاته الإعلامية “المشبوهة إعلاميا”، والتي لم تقتصر على ترويج ادعاءات مرسلة لم تصدر قبلا عن مسؤول بدرجة وزير وبهذا الحجم، ولكنها بلغت تورطه في تحريض ضد من رفضوا الانحياز إلى موقف المملكة الرسمي في الأزمة.
لا تقف شبكات حكم “ابن سلمان” عند عتبة التكنوقراط فقط، ولكنها تتجاوزهم نحو تمكين نخبته الخاصة من الشركات ورجال الأعمال.
*ولا يمكن إغفال دور الأموال وشبكات المصالح في استقرار أي نظام، خاصة في دولة مثل السعودية تعتمد على توزيع المال كركن رئيس في عقدها الاجتماعي.*
وكانت مجموعة “ابن لادن” الشهيرة أبرز ضحايا العهد الجديد بعد أن ذهبت “كبش فداء” لحادثة سقوط رافعة الحرم في موسم الحج عام 2015، حيث تم استبعادها من العقود الحكومية لفترة طويلة دخلت على إثرها في أزمات مالية وهيكلية عاصفة، *لتبرز آنذاك شركة “نسما”، المملوكة لرجل الأعمال “صالح علي التركي” ونجله “فيصل”، كأبرز المستفيدين بعد حصولها على امتياز مشروع “جبل عمر” العملاق في مكة، على حساب تحالف مجموعة “ابن لادن” مع مجموعة “سعودي أوجيه” المملوكة لرئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري.*
*تلعب شركة “المباني”، المملوكة لرجل الأعمال والوزير اللبناني الأسبق “نعمة طعمة”، بدورها أحد أدوار البطولة على الخريطة الجديدة لعالم الأعمال في المملكة.
تأسست “المباني” مطلع السبعينيات بشراكة بين “نعمة طعمة” والسعودي “كمال أدهم” الرئيس السابق لجهاز الاستخبارات السعودية في عهد الملكين “فيصل” و”خالد”، وكان “طعمة” مقربا من الملك الحالي “سلمان” منذ أن كان الأخير حاكما للرياض، وظل شريكا في معظم عقود الهندسة المدنية المبرمة في العاصمة في ذلك التوقيت، وأبرزها صفقة فاز بها اتحاد “باكس”، وهو اتحاد أنشأته المباني مع شركات “بكتيل” و”سي سي سي” و”سيمنس”، بهدف الحصول على عقد ضخم بقيمة 10 مليارات دولار لبناء خطين للمترو في الرياض.
كما فازت المجموعة بعدة عقود أمنية على رأسها عقد بناء قاعدة “درع الجزيرة” العسكرية في محافظة “حفر الباطن” بتكلفة 250 مليون دولار.
*بالإضافة إلى شبكتي “التكنوقراط” و”الشركات ورجال الأعمال”، يحمي الملك حكمه وحكم نجله من بعده عبر تشكيل تحالف مصغر من الأمراء “السلمانيين”، مَن يتم إعدادهم لتقاسم النفوذ في النظام الجديد بعد انحسار نفوذ الأمراء المعروفين.*
وينتشر أبناء الملك سلمان بدقة في مجموعة من مناصب وأدوار متفرقة يؤدي كل منها دوره في تشكيل النظام الجديد.
ففي حين يشغل بعضهم مناصب رسمية، مثل “عبد العزيز بن سلمان” وزير الدولة لشؤون الطاقة، و”خالد بن سلمان” السفير الجديد لبلاده في واشنطن، يقوم بعضهم برعاية الاستثمارات العائلية مثل “تركي بن سلمان”، في حين يجمع بعضهم بين النشاط السياسي ومجال الأعمال مثل الأمير “فيصل بن سلمان” حاكم المدينة المنورة.
تمتلك العائلة أيضا شبكتها الخاصة من المصالح والشركات التجارية داخل وخارج البلاد، مثل شركة “الشاف” ممثلة لمصالح أبناء الملك سلمان الثلاثة من زوجته الأولى “سلطانة بنت تركي السديري”، وهم: رائد الفضاء “سلطان بن سلمان”، ووزير الدولة “عبدالعزيز بن سلمان”، وحاكم المدينة المنورة “فيصل بن سلمان”، إضافة إلى شركات “سافاسون كورب”، “فالبورتون” للاستثمار، و”فولابين”، المسجلة جميعها في لوكسمبورغ، والممثلة لمصالح أبناء الملك “سلمان” من زوجته “فهدة الحثلين”، وعلى رأسهم ولي العهد “محمد بن سلمان”، وإخوته الأشقاء “خالد” و”تركي” و”راكان”.
*يُعيد “محمد بن سلمان” إذن، بدعم من والده وبشكل واضح، تشكيل طبقة الحكم في المملكة، متجاوزا القواعد المتفق عليها تراضيا من قِبل مراكز القوى لتقاسم السلطة السعودية.*
بدأ الأمر بحملة مركبة للإجهاز على سلطة رجال الدين في نقض للتحالف التاريخي المؤسس للسلطة السياسية بالدولة الخليجية الأكبر، قبل أن ينتقل إلى التلاعب بمراكز السطوة والنفوذ، وهي مراكز مالت بشكل غير مسبوق إلى كفّته وإخوته من آل سلمان، على حساب أبناء عمومتهم من سائر أفرع العائلة المالكة، *معتمدا في ذلك على سياسة تستبعد الأمراء بشكل واضح من المناصب التنفيذية لصالح التكنوقراط الموالين له من خارج العائلة المالكة، من أجل تجنب المنافسات المحتملة على السلطة،*
بينما يُعاد تشكيل المشهد الاقتصادي السعودي وطبقة رجال الأعمال لصالح الموالين للنظام الجديد.
بيد أن لعبة السلطة الجديدة الممارسة من قبل النظام السعودي اليوم لا يقف أثرها عند هيكل الحكم وتركيبة النخبة، وإنما يتعدى إلى طبيعة هذا الحكم وفلسفته، وعلاقته بالمجتمع السعودي الخاضع بدوره حاليا لعملية تحول كبرى تتأثر مباشرة بالتغيرات السلطوية، وتؤثر فيها بشكل لا يمكن تجاهله أيضا، فيعيش السعوديون اليوم في مجتمع أكثر حداثة بكثير بالمقارنة بآبائهم، وفي عصر لم يعد فيه بالإمكان الإبقاء على مجتمع أكثر محافظة فقط بعزله عن العالم.
*العقد السعودي الجديد*
تُعد السعودية إحدى أكثر دول العالم شبابا، مع وجود 50% من السكان تحت سن 25 عاما، نسبة تضم عشرات الآلاف من سعوديين تلقوا تعليمهم في مجتمعات أكثر ليبرالية كالولايات المتحدة ودول أوروبا، وملايين آخرين عايشوا ثورة الاتصالات والإنترنت والترفيه ووسائل التواصل الاجتماعي،
وعاصروا قدرا غير مسبوق من الجدالات حول الدين والسياسة والتغيير والسلطة في دولة لم تعرف إلا الكم الأدنى من ذلك.
*ورغم أن قوانين المملكة فرضت قيودا هائلة على الأنشطة المدنية والاجتماعية وحتى الترفيهية، فضلا عن النشاط السياسي بكل تأكيد، فإن الشباب السعودي ظل أكثر انفتاحا ومواكبة للعالم عبر الإنترنت، وغالبا ما يتحايل الكثير منهم على القيود التقنية البدائية المفروضة على المعرفة والاتصال في عصر لا يسمح بذلك،* وتحايلوا حتى على القيود على الترفيه بعبور جسر الملك فهد لاقتناص ساعات من متع محرمة سعوديا أو بشكل عام في دولة البحرين المجاورة.
لم يكن من المستغرب في ظل كل ذلك عدم مقابلة قرار تمكين المرأة من قيادة السيارات بمعارضة شعبية حقيقية تُذكر، رغم الصورة النمطية المألوفة والمرسومة حول الطبيعة المحافظة للشعب السعودي وتمسكه الشديد بإرث رجال الدين، وظهر أن الوعي الجمعي السعودي لم يعد عالقا بعد في تصورات القرن الماضي، وأنه رغم الحرص الشديد للسلطة على أن تُلبس إجراءاتها الاجتماعية أردية ثورية، لدرجة أنها حذّرت(15) النشطاء من الاحتفال بقرار السماح بقيادة السيارات حتى لا يزاحموها في المشهد، فإن هذه الإجراءات ظلت أقل من تطلعات السعوديين، وبعكس صورة يحاول ولي العهد تصديرها للعالم، فإن المجتمع هو من يدفع إلى مزيد من الحقوق وليس النظام السعودي.
*لكن ما هو جدير بالانتباه يكمن في كون قدوم إصلاحات النظام السعودي “الليبرالية” مغلفة بأجواء غير مألوفة من القمع على طول الطيف السياسي.*
فخلال الشهر الماضي وحده جرى اعتقال العشرات من رجال الدين والأكاديميين والناشطين ورجال الأعمال ممن لم يُبدوا حماسا كافيا لتوجهات السلطة الجديدة وسياستها الخارجية، ما يُعد تناقضا مع ليبرالية يَعِد بها “ابن سلمان”، *وظهر أن “ليبرالية العهد السعودي الجديد” تَعِد فيما يبدو بإصلاح كل شيء عدا السياسة، وهي أقرب ما تكون إلى نموذج “ليبرالية مستبدة”، تقوم بتقديم بعض الحقوق الاجتماعية كستار لترسيخ القمع واسع النطاق.*
على مدار تاريخها لم تكن(16) السعودية يوما دولة ديمقراطية أو تمثيلية، ومارست السلطات بعض القمع عبر تاريخها في مواجهة تيارات المعارضة، بداية من الاشتراكيين في الخمسينيات، ومرورا بالليبراليين في أواخر السبعينيات، ووصولا إلى تيار الصحوة مطلع التسعينيات، وحتى الجهاديين والشيعة، ولكنه ظل قمعا محدودا وموجّها.
وحافظت السلطات عبر تاريخها على ذلك النمط من “الاستبداد التعاقدي”، وهو استبداد منعها من الانجرار إلى هاوية قمع واسع النطاق مارسته الجمهوريات العسكرية، وحرص الملوك دوما على الاحتفاظ بصورة أبوية كحكام بين المجتمع ومؤسسات الدولة.
ولكن مع قيام السلطة الحالية، ممثلة في مشروع “ابن سلمان” بتحطيم النخبة ورجال الدين والأمراء النافذين ذوي العلاقات القبلية الواسعة، وسائر الجماعات الوسيطة بينها وبين المجتمع، فإنها تفقد حصانتها الرمزية في تحمل المسؤولية عن سياساتها، وتضع نفسها في مواجهة المجتمع وجها لوجه لأول مرة.
غير أنه، ومن وجهة نظر السلطة الجديدة، لا يُعد هذا التحول إلى القمع مجرد خيار في وقت تتغير فيه تركيبة المجتمع السعودي، وفي خضم هذا التغيير تخضع الأفكار السائدة لمراجعات عنيفة، وتتفكك بشكل تدريجي عُرى “الأبوية الاستبدادية” الحاكمة لجزيرة العرب المحافظة، بعد أن تم كسر قدرة النخبة على احتكار المعرفة والتحكم في الرواية السائدة.
وكانت أولى نقاط التفكك، للمفارقة، هي السلطة الرمزية لشبكة رجال دين لم يعد يُنظر إليهم كممثلين عن المجتمع في عقد الحكم السعودي، ما سهل مهمة “الدولة الرابعة” في تسارع تحجميهم.
غير أن تحول هذا التمرد الاجتماعي إلى تمرد سياسي يبقى أكبر مخاوف النظام الجديد، خاصة أن ولي العهد الشاب يبدو أقل حظا مع دولته من أسلافه، حيث تتقلص إيرادات المملكة بشكل ملحوظ ما يتسبب في انكماش تدريجي لدولة الرفاه، ولم يعد بمقدور أي سلطة ضمان شراء الولاء بالمال كما اعتاد الملوك سابقا، ما يجعل البحث عن صفقة بديلة أمرا حتميا.
وفي هذا الإطار أتت “رؤية 2030” الهادفة، فيما هو معلن، لإنهاء اعتماد السعودية على النفط عبر خلق اقتصاد إنتاجي بديل، بينما تحمل في جوهرها صفقة جديدة للحكم، يتم خلالها مقايضة ذلك الحكم مقابل مجموعة من الحقوق الليبرالية والحريات الاجتماعية، أو بعبارة أخرى، وفي حين أن الأجيال الأولى من الأمراء قدموا لشعوبهم المال والرفاه مقابل السلطة السياسية، فإن “ابن سلمان” يقدم اليوم الترفيه والمسارح والرياضة وعمل المرأة وقيادة السيارات مقابل هذه السلطة.
بيد أنه من غير المرجح قابلية هذا العقد الاجتماعي الهش للاستمرار على المدى الطويل، ولن يتطلب الأمر أكثر من وقت قبل أن تتحول الطفرة الاجتماعية السعودية إلى مطالبات سياسية حقيقية، ما سيترك نظام الدولة الرابعة في خيار صعب بين الاستجابة لهذه المطالبات، أو تقليل دائرة السماح عبر ممارسة المزيد من القمع.
*لذا فإنه للمفارقة وفي وقت تتجه فيه المملكة لتصبح أكثر ليبرالية من الناحية الاجتماعية، فإنها تنطلق بنفس الوتيرة نحو تشكيل نظام أكثر استبدادية وأكثر استنادا في ضمان استقرار حكمه إلى قبضة أمنية مُحكمة.*
*كانت السعودية عبر تاريخها دولة زاخرة بقدر مثير للتعجب من التناقضات،*
ففي وقت قام فيه السعوديون بإعدام “جيهمان العتيبي” مباشرة، فإنهم حولوا منهجه إلى دستور حاكم للبلاد لعدة عقود، وفي حين تزعم المملكة اليوم تحولا ليبراليا يمكن في ظله للمرأة السعودية أن تنعم أخيرا بحق تتمتع به نساء الأرض منذ أزمنة طويلة، فإن ليبراليتها تبقى فريدة من نوعها، وللغرابة فإنها تأتي في سياق عملية تحوُّل صُمّمت بشكل رئيس لا لتمكين المجتمع، وإنما لاقتناص أكبر قدر من السلطة وتكديسها في مجموعة يتزعّمها ولي عهد طامح لقلب كل شيء رأسا على عقب، ولإنتاج نظام جديد يبدو برّاقا، لكنه أقل فاعلية وأكثر استبدادا على الأرجح
_____________________________________
الهوامش:
(*) روبرت ليسي.. المملكة من الداخل
(**) المصدر نفسه
(***) ستيفان لاكروا.. زمن الصحوة
(****) للمزيد من التفاصيل (أ ، ب، ج)
للاشتراك في قناة موقع يمنات على التليجرام انقر هنا
لتكن أول من يعرف الخبر .. اشترك في خدمة “المستقلة موبايل“، لمشتركي “يمن موبايل” ارسل رقم (1) إلى 2520، ولمشتركي “ام تي إن” ارسل رقم (1) إلى 1416.